كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ عَلَى كَثْرَةِ مُخْرِجِيهِ غَرِيبٌ وَضَعِيفٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُفَصَّلَةً وَمُطَوَّلَةً وَفِيهَا زِيَادَاتٌ خُرَافِيَّةٌ، تَشْهَدُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مِنَ الدَّسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآثَارُ يَعُدُّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ وَجَرْينَا عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنْهَا مَظِنَّةٌ لِلْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَهِيَ لَا يُوثَقُ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا يُنْكِرُهُ الدِّينُ أَوِ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ قَطَعْنَا بِبُطْلَانِهَا وَكَوْنِهَا دَسِيسَةً إِسْرَائِيلِيَّةً، وَمِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ طَعْنًا صَرِيحًا فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَرَمْيًا لَهُمَا بِالشِّرْكِ، وَلِذَلِكَ رَفَضَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَكَلَّفَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا تُنْكِرُهُ اللُّغَةُ. وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَصَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ، وَصَاحِبِ رُوحِ الْمَعَانِي الْأَخْذَ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ دُونَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، الَّتِي فِيهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ رَمْيِ آدَمَ بِالشِّرْكِ الصَّرِيحِ، وَظَنَّا أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَوَصَفَاهُ تَبَعًا لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ بِالْحَسَنِ وَالصَّحِيحِ، وَمَا هُوَ بِحَسَنٍ وَلَا صَحِيحٍ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ كَتِلْكَ الْآثَارِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ فِيهَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ جَدُّهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَنَّهَا قُرَشِيَّةٌ أَوْ عَرَبِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا مِنْ خُزَاعَةَ لَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِشِرْكِهِمَا تَسْمِيَةُ أَبْنَائِهِمَا الْأَرْبَعَةِ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ الدَّارِ- يَعْنِي دَارَ النَّدْوَةِ- وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِذِكْرِهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ بُطْلَانُهُ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الَّتِي انْخَدَعَ بِهَا وَلَا يَزَالُ يَنْخَدِعُ بِهَا الْكَثِيرُونَ، وَعُمْدَتُنَا فِي تَمْحِيصِهَا وَبَيَانِ عِلَلِهَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فَقَدْ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا آثَارًا وَأَحَادِيثَ سَأُورِدُهَا وَأُبَيِّنُ مَا فِيهَا، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ وَبِهِ الثِّقَةُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ مَرْفُوعًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ عَنْ هِلَالِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ شَاذِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَرْفُوعًا. قُلْتُ وَشَاذُّ هُوَ هِلَالٌ وَشَاذٌّ لَقَبُهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ الْمِصْرِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ بْنُ مَعِينٍ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا فَاللهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ سَمُرَةَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: سَمَّى آدَمُ ابْنَهُ عَبْدَ الْحَارِثِ.
(الثَّالِثُ) أَنَّ الْحَسَنَ نَفْسَهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو وَعَنِ الْحَسَنِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: عَنَى بِهَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ، وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدُ. يَعْنِي جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا. وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الْحَسَنِ رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، لاسيما مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعِهِ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلُ كَعْبٍ أَوْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ، أَلَّا أَنَّنَا بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ الْمَرْفُوعِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَادًا فَيُعَبِّدُهُمْ لِلَّهِ وَيُسَمِّيهِمْ عَبْدَ اللهِ وَعُبَيْدَ اللهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُصِيبُهُمُ الْمَوْتُ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَوْ سَمَّيْتُمَاهُ بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ بِهِ لَعَاشَ، قَالَ: فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ يَقُولُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ فِي آدَمَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَرَّتْ بِهِ} شَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؟ {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا؟، أَمْ هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يَكُونُ؟، أَبَهِيمَةٌ أَمْ لَا؟ وَزَيَّنَّ لَهُمَا الْبَاطِلَ إِنَّهُ غَوِيٌّ مُبِينٌ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا وَمَاتَ كَمَا مَاتَ الْأَوَّلُ فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الْآيَةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} آدم {حَمَلَتْ} فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا الَّذِي أَخْرَجْتُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ لَتُطِيعَانِي أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ أَيِّلٍ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكِ فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ- يُخَوِّفُهُمَا- فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّانِيَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ- يُخَوِّفُهُمَا- فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَا فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَذَكَرَ لَهُمَا فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ تَلْقَّى هَذَا الْأَثَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ، وَمِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَلَفِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَاتٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَأَنَّهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَصْلَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينِي وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَلَمْ تَفْعَلْ فَوَلَدَتْ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا فَقَالَ: إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا.
وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهَ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ: «فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ» وَهَذَا الْأَثَرُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثُمَّ قَالَ: فَذِكْرُهُ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْرِ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (67: 5) الْآيَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَصَابِيحَ وَهِيَ النُّجُومُ الَّتِي زُيِّنَتْ بِهَا السَّمَاءُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَخْصِ الْمَصَابِيحِ إِلَى جِنْسِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. سِيَاقُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَدْ أَصَابَ كُنْهَ الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ طَعْنًا فِي عَقِيدَةِ أَبَوَيْنَا آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَا تُبْطِلُهُ عَقَائِدُ الْإِسْلَامِ، وَجَبَ الْجَزْمُ بِبُطْلَانِهَا وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى سَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَأَفَنَ آرَائِهِمْ بِهَذَا الشِّرْكِ فَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّجْهِيلِ، أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ وَلِكُلِّ شَيْءٍ، مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ مَهْمَا يَكُنْ حَقِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (22: 73) وَلَيْسَ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَلَا يَلِيقُ بِسَلِيمِ الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَخْلُوقَ الْعَاجِزَ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ! وَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا حِكَايَةٌ لِشِرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ كَافَّةً، وَمِنْهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِهِمْ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، فَقَوْلُهُ: {مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا} يُرَادُ بِهِ أَصْنَامُهُمْ؛ لِأَنَّ {مَا} لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي {يَخْلُقُ} مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ فِي {يُخْلَقُونَ} مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، وَجَعْلُهُ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضَارِع {يُخْلَقُونَ} لِتَصْوِيرِ حُدُوثِ خَلْقِهِمْ، وَكَوْنِ مِثْلِهِ مِمَّا يَتَجَدَّدُونَ فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا أَسْوَأُ فَضَائِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ.
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} أَيْ: وَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ غَيْرَ خَالِقِينَ لِشَيْءٍ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِعَابِدِيهِمْ نَصْرًا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا عَلَى مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا بِإِهَانَةٍ لَهَا، أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ طِيبِهَا أَوْ حُلِيِّهَا، كَمَا قَالَ: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (22: 73) أَيْ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكُمْ فِي تَكْرِيمِهِمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَدْفَعُونَ عَنْهُمْ وَتَنْصُرُونَهُمْ بِالنِّضَالِ دُونَهُمْ {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ} قَرَأَ نَافِعٌ {لَا يَتْبَعُوكُمْ} بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتْبَعُوكُمْ، فَلَا هُمْ يَنْفَعُونَكُمْ، وَلَا هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى إِفَادَتِكُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ أَيْ: مُسْتَوٍ عِنْدَكُمْ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَبَقَاؤُكُمْ عَلَى صَمْتِكُمْ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ: صَمَتُّمْ، أَوْ تَصْمُتُونَ؛ لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِهِمْ كَانَ قَدْ وَهَنَ بِحَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَكَوَارِثِ الْخُطُوبِ بَلْ يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِتَقَالِيدِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ فِيهِمْ وَالرَّجَاءِ بِشَفَاعَتِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الرَّخَاءِ، الَّتِي لَا يَشْعُرُ فِيهَا الْإِنْسَانُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (29: 65) وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ عِنْدَ قُرْبِ وَضْعِ الْحَامِلِ، وَالشِّرْكُ بَعْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْوَصْفِ {صَامِتُونَ} لِإِفَادَةِ كَوْنِ إِحْدَاثِ الدُّعَاءِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الثَّابِتَةِ قَبْلَهُ وَاسْتِمْرَارِهَا سَوَاءٌ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ بِنَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى دُعَائِهِمْ، وَعَدَمِ خُطُورِهِمْ بِالْبَالِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَالشُّعُورِ بِحَاجَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ، وَلَوْ قَالَ: أَمْ صَمَتُّمْ أَوْ أَمْ أَنْتُمْ تَصْمُتُونَ لَمَّا كَانَتِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَإِيجَابٍ وَسَلْبٍ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِتَكَلُّفِ الصَّمْتِ، وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْ دُعَائِهِمْ وَلَوْ لِلتَّجْرِبَةِ مَعَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي الْمُرَادِ مِنْ كَوْنِ وُجُودِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ، وَمِنْ كَوْنِ دُعَائِهَا مُسَاوِيًا لِتَرْكِ الدُّعَاءِ، وَلَوْ مَعَ انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَسَائِلُ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا كَانَ يَقُولُ أُولُو الْوَثَنِيَّةِ الْكَاسِيَةِ الْحَالِيَّةِ، أَوْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَا أَعْطَاهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِاسْتِقْلَالِهَا، كَمَا يَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْوَثَنِيَّةِ الْعَارِيَةِ الْعَاطِلَةِ- لَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ دُعَائِهَا ضَارًّا بِهِمْ، أَوْ مُضَيِّعًا بَعْضَ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ أَشْرَكَ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ أَنَّ هَذَا التَّوْبِيخَ لَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَدْعُونَ جَمَادًا أَوْ شَجَرًا لَا يَعْقِلُ، وَهُمْ يَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ وَصُلَحَاءَ، لِأَمْوَاتِهِمْ حُكْمُ الشُّهَدَاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ قُبُورَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهَا؛ لِأَنَّ لِأَرْوَاحِهِمُ اتِّصَالًا بِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ مِنْ جَهْلِهِمْ بِأَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ لَمْ تُنْصَبْ إِلَّا لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ الَّتِي انْتَقَلَتْ إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَتِ اللَّاتُ صَخْرَةً لِرَجُلٍ يَلُتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقَ وَيُطْعِمُهُ لِلنَّاسِ، فَالْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ وَالْقُبُورُ الَّتِي تُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهَا وُضِعَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ عُرِفُوا بِالصَّلَاحِ، وَكَانُوا هُمُ الْمَقْصُودِينَ بِالدُّعَاءِ، لِمَا تَخَيَّلُوا فِيهِمْ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَةِ اللهِ، أَوِ التَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ فِي مُلْكِ اللهِ، وَهُوَ أَفْحَشُ الشِّرْكِ بِاللهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ إِشْرَاكِ الصَّنَمِ وَالْوَثَنِ، وَإِشْرَاكِ الْوَلِيِّ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْمَلَكِ، فَاقْرَأِ الْآيَاتِ فِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لِلَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (21: 26- 29). اهـ.